الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

الإسراف في خدمة الحسين (ع)

الإسراف في خدمة الحسين (ع)

بقلم : ع . ز


--------------


يقولون بأن المبلغ الكذائي الذي يُصرف على إطعام المعزين بأبي عبد الله (ع) يمكن لنا به تزويج عشرة عزّاب في أفريقيا أو إطعام مئة مسكين في الهند! ويقولون بأن مواكب الإطعام تسدّ الطريق وتؤذي المارة وتخلق الزحام! ويقولون بأن الإمام الحسين (ع) نهض لقضية وهذه الأفعال ليست من قضيته ... إلخ! وهذه كلها كلمات وشبهات تكرر في كل عام، ومع كل مناسبة دينية.
في الواقع يجب أن ننظر للقضية بعمق أكبر، حين تصدر هذه الدعاوى من أفراد من عموم المؤمنين قد نجد لهم فيها عذرًا وهي أن أحدهم قد تضايق أو أصابه شيء فكان منطلقه ردة فعل أو سوء قراءة أو وجهة نظر، وهذه الأمور لسنا ملزمين بردها لكونها موقف شخصي وحكمها حكم النادر، وحكم النادر كما تقرر في محله كالمعدوم، هذا أولاً، أمّا ثانيًا، فهو أن موقف شخص أو شخصين لا يلغي ولا يبدل أصل الحُكم، فعدم قدرة العجائز على الركوع في الصلاة أو الفقير على التصدق أو عدم رغبة العاصي في الصيام لا يلغي أصل الركوع بالصلاة، ولا ينفي استحباب التصدق، ولا يغيّر التكليف الواجب بالصوم، فهذه الأحكام عامة ومطلقة، ولا يصح تغييرها بل تسقط عند التعسر أو يخفف التكليف للمكلَّف (ولا يلغى أصل التكليف) وبحث هذا محله الفقه.
وقد تأتي هذه الدعاوى من مرضى القلوب الذين يحملون في قلوبهم شيئًا على الدين لكنهم يخافون اظهاره فيلعبون لعبة الاستخباء خلف: (قال فلان / أو لو كان كذا / أو إن الحسين عِبرة وليس عَبرة! / أو تنقية الشعائر والحرص عليها) وهي لعبة يمارسها حتى الوهابية في نقدهم للبكاء والشعائر الحسينية بعنوان (أين عقولكم يا رافضة؟) وكأنّ العقل اعتزل الناس وقرر المكث عند المجسمة الحشوية! هؤلاء، دعاة التنوير والعقلنة والتطور والحداثة ومستلزمات العصر والمتأثرين بزيف دعاوى المخالفين وطالبي القرب منهم، يكون جوابهم ليس في الجزئيات بل في الكليات وهي الأصل في الخضوع والتسليم للدين وأوامره ونواهيه، ومن الخطأ وضع أي وزن لأقوالهم بخصوص القضية الحسينية لأنهم يتعاملون معها من باب أنها قضية فلكورية وتأريخية أو نضالية وسياسية في أحسن الأحوال وليست حدثاً اهتز الوجود بسببه وبكى النبي الأعظم (ص) لأجله، وحث سادات الوجود (ع) على إحيائه، وتعزى الأنبياء بعزائه، فحديثهم عن الشعائر هو مجرد محطة يمارسون بها تفاهتهم الفكرية والتشكيكية المعتادة تجاه الدين لخوفهم من التصريح بحقيقة موقفهم منه ويتوارون خلف هذه الأقنعة.
وأخيرًا قد تأتي من فئة منظمة، أو تيار له هيكليته، أو جماعة لها فكرها الخاص، وهنا حينما نرى اتفاق مجموع المنتمين لهذه الفئة أو المنظمة أو الحزب .. إلخ على الاصرار على التحدث عن ظاهرة ما ويحملون عليها حملة رجلٍ واحد لا يكون هناك مجال للشك بأن العملية منظمة وليست عفوية ولها أهدافها:
فقد تكون لقياس مدى شعبية وتأثير هذا الحزب أو التيار في الشارع من خلال قياس انصياع الناس لدعاياتهم، وليس هذا بمستغرب بل هو معلوم ومشاهد لمن هو مطلع على دهاليز السياسة، وبه تكون المساومات السياسية مع الأطراف الأخرى.
وقد تكون لتخويف الناس حتى لا يجرؤوا على تنظيم تظاهرة شعبية عفوية كالمواكب الحسينية دون الرجوع إليهم وأخذ الموافقة منهم والخروج من تحت عباءتهم.
وقد تكون للمزايدة والاستئكال باسم أهل البيت (ع) فلا أحد يحق له خدمة أهل البيت (ع) إلا من خلال رؤيتهم، ولا التحدث عنهم (ع) إلا بنظرتهم، فأهل البيت (ع) حكر عليهم وفكر التشيع لا ينبت إلا من عندهم في غرف عمليات الحزب أو التيار!
وغيرها من الأمور لكن فيما مضى الكفاية.
وهنا نقاط يجب الإلتفات لها:
• الإمام الحسين (ع) وقضيته استثناء بكل حالاتها، فزيارته ضرورة بل أوجبها بعض الفقهاء، وزيارة الحسين (ع) لا تسقط حتى مع الخوف بل وبعض الفقهاء لا يسقطها حتى لو تيقن الزائر بالضرر البليغ، والجزع والتفّجع لمصاب الحسين (ع) مستحب، وإحياء شعائر الحسين (ع) مندوب، والدمعة على الحسين (ع) تطفىء نيران جهنم، كما أن الصلاة في حضرته الشريفة تامة حتى لو كان الزائر مسافراً، ولبس السواد لأجل مصيبته مستحب، وغيرها من الأحكام التي تبدلت عناوينها لدخولها بعنوان إحياء أمر الإمام الحسين (ع)، وهذا من خصائصه (ع)، فلا معنى لفرض أوليات تتقدم عليه!
• حكم الإسراف والتبذير يكون "بالحالات التي يصرف فيها الإنسان الأموال هدراً ولو كانت قليلة، بينما إذا صُرِفَ في محلِّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً، ويعدُّ من الاقتصاد" فعن عن الصادق (ع): من أنفق شيئًا في غير طاعة الله فهو مبذر، ومن أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد. (البحار ٣٠٢/٧٧)
فلا منافاة ولا مزاحمة بين أعمال الخير، وليس هناك "مانعة جمع" حتى نقول بأن اطعام المؤمنين يتعارض مع تزويج العزاب وأن ذاك يعارض ويزاحم هذا! 

• إطعام المؤمنين ليس فيه إسراف ولا تبذير، ففي (مستدرك الوسائل / ج١٦) عن الصادق (ع): لو أن رجلاً أنفق على طعام ألف درهم وأكل منه مؤمن لم يعد سرفًا.
فما بالك لو كانوا "مؤمنين" وكانت النية هي الإطعام على حب الحسين (ع) وإهداء الثواب له، وكانت إحياءً لأمره، فهنا تتكاثر عناوين المستحبات.
وهو ما اكد عليه جملة من الفقهاء.

• إذا كانت دعوى الاسراف بالطعام هي الشعار وتحويلها للفقراء ألزم، فالأولى إغلاق المطاعم ومحاربتها لكونها تسرف بإعداد الطعام والناس في العالم يموتون جوعاً، والأولى محاربة الألبسة والسيارات والاكسسوارات المكلفة والتبرع بثمنها للفقراء، والأولى التيمم حفاظاً على الماء وعدم الاسراف به! بل يمتد الاشكال حتى للغبقات التي تقيمها الأحزاب والتيارات في مناسبتها لما يحدث فيها من إسراف وبأموال حقوق شرعية في بعض الأحيان! وهكذا ندخل بدائرة من المغالطات والأقيسة التي نهينا عنها وليست من فقهنا ولا من مذهبنا، فلكل إشكال جواب نقضي يرده، ولكل مغالطة مغالطة تقابلها، والدين لا يؤخذ بالقياس والاستحسان والمغالطات المخادعة، فانتبه.
• دعوى الإصلاح لا تكون بالمطالبة بالمنع، ودعوى التنظيم لا تكون بالهدم، بل الواجب الحث على مثل هذه الأمور وتكثيرها لأنها إحياء لأمر الحسين (ع) ودعوة له والعجب لا ينقضي ممن يفرح لأجل حدوثها في الغرب ويحاربها في بلده! نعم، هي تحتاج لتنظيم وهذا لازم ومطلوب وإن كان هناك من يرى فيها إسراف فعليه أن ينصح بتوزيع الفائض لموكب آخر، أو يوجه لمكان النقص حتى يُسدّ فتتوالد المواكب وتتكاثر بدلاً من أن تُحارب وتضمحل! هكذا تكون الخدمة الحسينية الحريصة وليست بدعاوى المحاربة والمناكفة والاتهامات المتبادلة في موسم الأحزان على مصابهم (ع).
• أخيراً، أسلوب "الحسين (ع) يريد .." و"الحسين (ع) لا يريد .." لا يصح استخدامه، فليس هناك أحد مخوّل بالحديث على لسان الإمام (ع) وتحديد مراده، والتقوّل على الإمام (ع) قد يدخل المؤمن في الكذب المحرّم ويصل إلى درجة إبطال الصيام لشدة حرمته، فانتبه أخي المؤمن / أختي المؤمنة من تنصيب نفسك مقام الإمام (ع)، وارجع للفقهاء العدول حرسهم الله لمعرفة تكليفك الشرعي، وما يريده الشرع منك، وإلتزم به بلا مخالفة ولا تحارب به احد، ولا تجعل من نفسك ندّاً لأحدٍ من الفقهاء العدول والعلماء الاعلام، فهم حجج الأئمة (ع) علينا كمقلدين.

• • • •

في حديث الصادق (ع) للمفضل: .. القبيح من كل أحد قبيح، ومنك أقبح لمكانتك منا، والحسن من كل أحد حسن، ومنك أحسن لمكانك منا».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق