روحية مهزومة وأنفس ذليلة
بقلم: عباس بن نخي
-------------
عن أميرالمؤمنين عليه السلام: "اعلموا أن الله تبارك وتعالى يبغض من عباده المتلوّن، فلا تزولوا عن الحق، وولاية أهل الحق، فإن من استبدل به هلك". وعن الصادق عليه السلام: "المؤمن له قوةٌ في دين، وحزْمٌ في لين، وإيمانٌ في يقين، وحرصٌ في فقه، ونشاطٌ في هدى، وبرٌّ في استقامة، وعلمٌ في حِلْم، وكيْسٌ في رفق... لا يُرى في حكمه نقصٌ ولا في رأيه وَهْنٌ، ولا في دينه ضياع..."
أن يراعي المؤمن المجتمع الذي يعيش فيه، فيمارس نشاطه وسلوكه ـ بما في ذلك شعائره الدينية ـ بكيفية تظهر حُسنه وزين أئمته وأربابه، وتوجب مقبوليته ومحبوبيته، وتنأى به عمّا يزري به ويشينه... فهذا أمر حسن ومطلوب، ومما أمر به الشرع ويحكم العقل، حتى إن باب "آداب العشرة" الذي تجده في مجاميعنا الروائية، يهدف فيما يهدف، خلق السلوك الاجتماعي السوي، والخُلق الديني الرفيع في التعاطي مع الآخر ومراعاة الظروف بما يحق الحق ويخدم الرسالة التي يحملها المؤمن.
ولكن الآفة، وما يشكل الخطر والبلاء هنا، ينشأ من أمرين:
الأول: الغفلة عن جوهر هذا الحكم، وعمق هذا التكليف.. ذلك حين تفسُد النية، فتنفصل حركة الجوارح عن تفاعلات الروح، ويقع الطلاق بين الظاهر والباطن، والافتراق بين السيرة والسريرة!.. يختلط الديني بالاجتماعي، وهذا بالسياسي، وكل ذلك بالتجاري والمالي، فلا تدري لماذا صلى الرجل مع القوم، ولم عاد مرضاهم وحضر جنائزهم؟ هل فعل ذلك من منطلق شرعي وخُلق ديني، أم قادته مصالح مالية وأغراض سياسية ومخاوف وهواجس دنيوية؟ هل فعله من فقه وقدرة ووعي وعزة، أم من جهل وعجز وضلال وذلة؟
الثاني: الإفراط والمبالغة في هذه "المراعاة" والذهاب إلى حد تمييع الشخصية وما يفضي إلى مسخ الهوية... فيتحول المؤمن في سيرته وتعاطيه مع الآخر إلى "ممثل"، كأنه يؤدي مشهداً في مسرحية، وفقاً للدور الذي يناط به! يفتقد نداوة الروح وطراوة الحس وسمو النفس، ويغدو آلة ميكانيكية تتحرك برتابة (وإن بانضباط) موغلة في الحسية والمادية! لا تعرف الحق في عمله من الباطل، ولا تميّز الصدق في حديثه من الكذب، ولا الأمانة في سلوكه من الخيانة!
إن من أخطر الحالات المرضية التي يمكن أن يعيشها المرء، ولا سيما إذا كان في موقع القيادة والريادة، الانطلاق في سلوكه ومواقفه من الخارج، ومحاكاة الخصم والعدو والآخر! لا الارتكاز على الروح والداخل، والامتثال للمبادئ والقيم والانطلاق من القناعات التي استقرت عليها النفس...
إنه مؤشر على الوهن الروحي والخواء النفسي، وعلامة على فقدان الهوية العقائدية واهتزاز الإيمان الذي يبني الركائز ويشيد القواعد!
يأتي موسم العزاء ومناسبة الشعائر الحسينية فيفقد القوم صوابهم ويذهبون في الهذي والتخريص ما شاء الشيطان، ينسون كل شيء في الذكرى، ويفرغونها من كل عطاء، ويكبون على نبذ هويتهم، ويتهالكون كيف عساهم أن يرضوا الآخرين؟ وماذا يفعلون حتى يعثروا على قواسم تجمعهم بهم وتشركهم معهم في عقائدهم وأحكامهم وآدابهم؟..
والحقيقة المرة في هذا الأداء، أن مهيضي الجناح والمتلونين المنقلبين هؤلاء لا يطيقون أن يكونوا "أقلية"، لذا يستميتون أن لا "ينفصلوا" عن مجتمعهم، ويُشار إليهم بما يميزهم عن المخالفين، وأن يعلق بهم ما يفردهم عن البيئة والمجموع والأغلبية المهيمنة! هكذا يسقط الوعي وتسحق الطليعية وتمتهن التقدمية على أيدي وتحت أرجل الدُعاة الذين يدّعون الحركية والسبق في الوعي والمبادرة إلى الجهاد!
لم ينطلق التعساء من حرص على دينهم، ولا قضّ مضاجعهم ما يتهدد مذهبهم!... إنهم ـ في واقعهم ـ يريدون العيش بعيداً عن تبعات التشيّع، ويسعون وراء ما يكفيهم مؤونة وكلفة حمل الرسالة والأمانة، ويعفيهم من ضريبة الحب والولاية!... ثم تراهم يدارون كل هذا العجز والضعف بعناوين إصلاح المذهب وذريعة نفي ما يشوهه!
من هنا فإن الحسين عند هؤلاء ثورة تجمعه بجيفارا، ومُصلح يثني عليه ويستشهد به غاندي... وأتباعه "إنسانيون" يتبرعون بالدم للمرضى والجرحى، و"سلميون" ينبذون العنف والدموية التي في التطبير، ورحماء يبذلون أموالهم للفقراء بدل أن يقيموا بها المآتم ويطعموا المعزين، وفنانون يرسمون اللوحات ويعزفون الموسيقى، و"منضبطون" لا يتغيبون عن مواقع أعمالهم ومقاعد دراستهم في عاشوراء، و"نظيفون" يكنسون الشوارع ويجمعون القمامة!... إن الحسينيين في قاموس القوم: أي شيء يرسخ اندكاكهم في الهوية الإسلامية العامة البعيدة عن المذهبية، ويؤكد التحاقهم واندماجهم مع العادات والتقاليد العامة التي تحكم مجتمعاتهم، دون أية خصوصية تميزهم، وعقيدة تفرزهم! بل يغرقون فيما يسلخهم عن هويتهم الأصلية الشيعية، ويميّعهم، ويفرغ الولاية من جوهرها، ويضيع معالمها، ويبعدها عن كنهها الإلهي، ويجعلها غطاءً يداري عجزهم ويغطي ضعفهم وخورهم.
كم هو غريب أن يتنكر نجيب لطهارة مولده ويصر أن يلحق بالأدعياء!
كم هو مؤلم يعيش دعاة الثورية والحركية العجز ويعانون الوهن والخور!
كم هو مشين أن تستولي الذلة على مؤمن، فتغزوه في نفسه وتهزمه في روحيته!