الاثنين، 3 نوفمبر 2014

عقـلنـة الشـعائـر

" عقـلنـة الشـعائـر"

بقلم: ع. ز.



مع كل موسم عاشورائي تعود نفس الأفواه لتجتر ذات الشعارات الخطابية عن العقلانية وضرورة عقلنة الشعائر الحسينية، وكون "الإمام الحسين (ع) يريد منا كذا ... ولا يريد منا كذا" وهو خطاب بائس يصادر إرادة الإمام (ع) ويتقوّل على لسانه لأجل فهم شخصي واستحسان ذاتي، وهي ذاتها الأمور التي تقف خلف دعوى عقلنة الشعائر الحسينية لأن قائلي هذه الاسطوانة يتصورون أن الإنسان لكونه كائن ذو عقل ووعي وإدراك [وهي كلمات ابتذلت لشدة ما استعملت] فهو يجب أن يكون عقلانيًا في كل وجوده، والحال أنه ليس كذلك، فشؤون حياته ومسالكه في معظمها لا يخضع تمام الخضوع للعقل!
إن أول ما يُلاحظ على أصحاب هذه الدعاوى هو الخطاب الإستعلائي الذي يمارسونه تجاه المؤمنين، وأهل الله من الناس، فرغم أن دعوى العقلانية في الغرب وهي منبعها اتسمت بالتواضع تجاه العلوم وولّدت مفاهيم ليبرالية إنسانية تجاه قبول الآخر فإن الخطاب العقلاني اتسم عندنا بالاستعلاء وتجهيل الآخر واستصغاره، وكأن العقل كان غائبًا عن عامة الناس ووجده أصحاب الخطاب فجأة فقرروا الامتياز به عليهم!
ثاني ملاحظة مهمة هي أن أصحاب دعوى العقلانية لا يعمدون أبدًا إلى وضع معيار يمكن قياس به "العقلانية" ولو تبصرت بما يطرحون حق التبصرة لوجدت أنهم يريدون إخضاع مفهوم العقلانية إلى "مقبولية الآخر ورضاه" فهم يريدون من "عقلنة الشعائر" أن نجعلها تحظى بقبول الآخرين المخالفين ورضاهم وتصفيقهم، وهذا يعني أن معيارها هو استحسان الطرف المقابل وليس اثباتها عقلانيًا له.
إنه من العجب أن نجد أهل العقل حقيقة، كابن سينا وملا صدرا وحتى امتدادهم اليوم كالعلامة الطباطبائي والشيخ الآملي وغيرهم، يرفضون مثل هذه الدعوى بعقلنة الشعائر الدينية، أو العقلانية المطلقة في كل شيء، بينما يصر عليها هؤلاء، وهم في الغالب ممن حظهم بالتعليم لم يتجاوز التعليم الأكاديمي الذي يبتني على المغالطات وتجميع المعلومات بالحفظ والاسترجاع، فتصوروا هذا الحفظ بما فيه من مغالطة وقياس وتشابيه "عقلاً" يطالبون كل شيء بالخضوع له.
يقول الشيخ اليزدي: «.. هم يريدون بالعقلانية أن الإنسان يجب عليه أن يقبل ما يعرفه بعقله ويدع ما وراء ذلك وأنه ليس في حياة الإنسان عامل مؤثر في تعيين مسيرته إلاّ عقله» (أصول المعارف الإنسانية / ٩٥).
وهذا الأمر يجر إلى «نفي الوحي والدين وإلى نفي الشهود العرفاني، فالعقلانية في الثقافة الغربية الحديثة تحتوي على هذه الشحنة السلبية وما يدعوننا إليه من العقلانية تشير إلى رفض الدين والوحي والأمور العرفانية والمعنوية. ومع الأسف فهذه الدعوة إلى العقلانية صارت شعاراً شائعاً حتى بين المثقفين المسلمين، ويؤيدون دعواهم هذه بالايات التي تحث الإنسان على التعقل والتدبير {إن في هذه لايات لقوم يعقلون...} وأمثالها، وأن الإسلام حث على الخضوع للعقل ورفض ما وراء العقل، غافلين أو متغافلين عن أن هذا يؤدي إلى رفض الدين والوحي لأن كثيراً من الأمور الدينية لا تنالها يد العقل، الوحي نفسه أمر غير عقلاني فإذا رفضنا كل أمر غير عقلاني يؤدي ذلك إلى نفي الدين ورفض الدينيات لا سيما ما لا يناله العقل، فيتبجحون بهذا الشعار ويدعون كل الشعوب وأصحاب الثقافات المختلفة إلى هذه العقلانية وكذا يدعون المسلمين إليها استناداً إلى أن الإسلام يدعو إلى العقل والعقلانية وهو شعار مزيف ومضلل» (أصول المعارف الإنسانية / ٩٦).
أهم ما تنطوي عليه هذه الدعوى هي أنها تؤصل لمعايير مائعة مطاطة لا يمكن قياسها، فأن تقول أريد منك أن تفهم الرسالة العملية فهو أمر يمكن قياسه بالاختبار والتقييم ولكن أريد منك أن تكون واعيًا أو نهضويًا أو ثائرًا .. إلخ هذه الخطابات الشعاراتية المائعة غير قابلة للقياس، فليس هناك معيار يمكن قياس حالة الوعي أو النهضوية إليه، ثم الوعي بماذا واستنادًا لمن؟ والإنسان إذا صارت مقاييسه مائعة صار قابلاً لكل دعوة دجل طالما استندت لخطابات وشعارات، وهو ما نراه اليوم جليًا!
نحن لا نقول بأن العقل غير مطلوب، كيف وهو أول مخلوق، ولكن العقل يختلف عن العقلانية، وللعقل حدوده ودوائره التي لا يتعداها، ولا يجب أن يتعداها، لأن الإنسان ليس عقلاً مجردًا بل هو مركب من روح وبدن، غرائز وشهوات، عقل وفكر، مشاعر وأحاسيس، وعقلنة مظاهر الحزن والجزع هي دعوى غير عقلانية، فكيف تقول لمن فجع بأمه أو أبيه عليك أن تكون واعيًا وتستبدل عزاءك بمؤتمر تطرح فيه فكر فقيدك؟ أو أن تحول فجيعتك إلى دراما مسرحية! وخلف هذه الدعوات عقول خبيثة تفكر لأنها تعلم بأن إزالة حالة التفاعل العاطفي سيجعل القضية تفقد زخمها وتأثيرها فكم شخص يتأثر بفلم أو مسرحية بعد رؤيتها للمرة العاشرة؟ وكم شخص مستعد لأن يقرأ مقالاً عن نفس الفكرة المستمدة من واقعة الطف كل عام؟ بينما مخيلة الإنسان لا محدودة ولا مقيدة وقدرتها على توليد التفاعل غير متناهية لذلك تبقى المصيبة حيّة بالشعر لأن الصورة تتولد مع حالتها العاطفية في نفس الإنسان، ومن هنا تفهم السبب الذي يدفعهم إلى فرض مفهوم "عقلنة الشعائر" فالهدف والغاية هو نزع الإنسان من إنسانيته الروحية والعاطفية وتحويله إلى آلة حاسبة لا تتفاعل ولا تتأثر إنما تستجيب بآلية ميكانيكية ومن ثم باسم احياء أمر الإمام الحسين (ع) تحوله إلى فلكور شعبي لا يختلف عن "الهالوين الغربي"، حتى يرضى عنك العالم الغربي ويعطيك المخالف صك مقبوليته!
إنك لا تجد في كل روايات أهل البيت عليهم السلام إلا التأكيد على حالة المأتمية والبكاء والإبكاء واحياء المصيبة واظهار التفجع والجزع والرثاء، وهذا يعبر عن حالة فهم عميقة لاستيراتيجية الحزن وتأثيره على إبقاء جذوة الانجذاب مشتعلة في النفس البشرية الحزينة بطبعها، وهو ما تؤكد عليه آيات قرآنية وروايات شريفة أيضًا. ولا تجد في رواياتهم ما يخالف ذلك ويعتبره أمرًا عرضيًا والأصل للمؤتمرات والأبحاث والمقالات والدراسات وباقي ما يندرج تحت عنوان "العقلنة والعصرنة"، فمصادرة توجيهات أهل البيت عليهم السلام لتوجيهات سياسية وحزبية ورؤى إنسانية ضيقة تنظر للمصالح الآنية لا يجوز، كما أن رمي تهمة التخلف والسقوط الحضاري على أساس ما يُقرأ على المنابر من مصائب أو ما تتم ممارسته من شعائر لا يدركونها بذوقهم واستحساناتهم التي يسمونها عقلاً - مجازًا!- هي مصادرة للمطلوب، ومغالطة بحد ذاتها تستبطن أمراً غير عقلاني وهو اعتبار المنابر الحسينية - وهي المنتمية لطائفة في ضمن عالم إسلامي عريض ساقط في وحل التخلف - لا الفشل الإداري والمالي والسياسي سببًا للإنحطاط!
خلاصة الأمر، دعوى عقلنة الشعائر هي دعوى شعاراتية، مائعة، وزئبقية تطلق لطلب رضا المخالف، ولتناسب ذوق المؤالف! وليست دعوى عقلية أبدًا لأن الشعائر في كثير منها ليس المخاطب بها العقل بل العقل مأمور بالتسليم والطاعة، فهل هناك سبب لعقلنة الحج أو عقلنة أركان الصلاة؟ وهل مرادات الشارع المقدس خاضعة لتبرير عقولنا؟ العقل غايته أن يوصلك لضرورة التسليم بالشرع فهو حاكم بالكليات وليس بالجزئيات ومحاولة إدخاله غصبًا للحكم على الجزئيات فيه جرأة على الإنسان الذي يتعدى وجوده هذا الوجود المادي الذي يسبح فيه العقل، وفيه إهانة للعقل الذي يدخل مجالاً خارج اختصاصه. إن مثل هؤلاء الدعاة كمثل من يطالب من قيس ان يعقلن حبه لليلى، فيصيغ لنا برهانيًا إنّيًا على كل صورة يريد صياغتها في بيت شعري، قبل أن يقوله!
إن المؤمنين يطلبون رضا الله وقبول مولاهم (ع) لا غيرهم ولا يكون ذلك الا باتباع التكليف الشرعي

•••


ورد في دعاء الندبة:
”.. فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما، فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعج العاجون ..“

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق